تعتبر التجربة الديمقراطية الكويتية، فريدة في نوعها وديمومتها، عند مقارنتها بمحيطها الإقليمي، فقد بدأت هذه التجربة منذ تشكيل أول مجلس تشريعي منتخب في 1938، وتوسعت وازدهرت بعد استقلال الكويت في 1961، بتشكيل مجلس تأسيسي انتخبه الشعب الكويتي في 1962 وهو المجلس الذي عهد إليه وضع دستور الدولة، وتمت أولى انتخابات لمجلس الأمة الكويتي في 1963، ولهذه التجربة الكويتية الفريدة نجاحات عديدة  لكن عكرت صفوها بعض الأزمات بين المجلس والحكومة، والتي استغلها البعض لتحريض السلطة على تعطيل لعمل باالدستور وتعليق الحياة النيابية، خصوصا عامي 1976 و1989، وما نجم عن ذلك من كوارث، بينما برزت الى العلن دعوات مشابهة حاليا، لغلق مسارات العمل الديمقراطي الكويتي، مما اعتبره العديد من المراقبين بمثابة “إنقلاب” على الحياة الديمقراطية في البلاد والاستفراد بالحكم عبر الغاء مجلس الأمة وإخراس صوت المواطنين.

نماذج من التعطيل وآثاره

ففي 1976 وفي أعقاب تقديم الحكومة لاستقالتها نتيجة فقدان التعاون بين السلطتين، أصدر أمير البلاد الراحل الشيخ صباح السالم أمرا أميريا آنذاك بحل مجلس الأمة حلا غير دستوري وعدم الدعوة الى انتخابات جديدة ووقف العمل بأحكام المادة 56 فقرة 3 والمواد 107، 174، 181 من الدستور، مما نتج عنه فراغا دستوريا استمر أكثر من أربع سنوات تم خلالها تشكيل لجنة للنظر في تنقيح الدستور وقد ووجهت برفض شعبي، ثم تم انتخاب مجلس أمة جديدا في 1981.
المرة الثانية التي مرت فيها البلاد بحالة من تعطيل العمل بالدستور، كانت في 1986، بسبب مواجهات بين مجلس الأمة والحكومة على رأسها أزمة سوق المناخ وتوالي الاستجوابات المقدمة للوزراء، فأصدر الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد أمرا أميريا آنذاك بحل مجلس الأمة حلا غير دستوري وتعطيل بعض مواد الدستور.
واستمر التعليق والفراغ الدستوري أكثر من 6 سنوات، وأعقب الحل قيام حركة شعبية معارضة طالبت بعودة الحياة الدستورية فيما عرف بأحداث “دواوين الاثنين”، واستمرت الأزمة حتى وقوع الغزو العراقي عام 1990.

تعليق الحياة النيابية.. ماذا تعني؟

في المرتين اللتين تم فيهما تعطيل الدستور وتعليق الحياة النيابية في عامي 1976  و1986 كان الهدف الأساسي هو حل مجلس الأمة حلا غير دستوري وعدم الدعوة الى انتخابات جديدة خلال شهرين من تاريخ الحل وفق نص المادة 107 من الدستور التي تلزم بانتخاب مجلس جديد خلال المدة المحددة، كما تم وقف العمل بالمادة 181 والتي تحظر “تعطيل أي حكم من أحكام هذا الدستور إلا أثناء قيام الأحكام العرفية في الحدود التي يبينها القانون، ولا يجوز بأي حال تعطيل انعقاد مجلس الأمة في تلك الأثناء أو المساس بحصانة أعضائه”.

شرخ بين القيادة والسلطتين

وإذا كانت الأزمات السياسية بين الحكومة ومجلس الأمة تنشب في السابق بسبب الاستجوابات او لجان التحقيق البرلمانية او بعض مشاريع القوانين وحدوث حالة من الاحتقان السياسي بسببها، فان الكويت شهدت في أواخر 2023 أزمة من نوع جديد تمثلت في الخلاف بين القيادة السياسية الجديدة، بعد تولي أمير البلاد الجديد سمو الشيخ مشعل الأحمد الحكم من جهة، وبين السلطتين المتوافقتين معا “مجلس الأمة 2023 والحكومة السابقة برئاسة الشيخ احمد النواف من جهة أخرى، وهو ما أضاف عبئاً آخر إلى الأزمات السياسية التي تعيشها البلاد وزادها تعقيدا، فقد وجه الأمير الجديد سمو الشيخ مشعل الأحمد في جلسة أدائه القسم أمام مجلس الأمة عقب تنصيبه أميرا للبلاد، اتهامات مباشرة وصريحه الى السلطتين التشريعية والتنفيذية بالتحالف فيما بينهما والعبث وتهديد مصالح البلاد العليا.

وحدث هذا الشرخ بين القيادة السياسية الجديدة وبين السلطتين، في ظل حالة التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في مجلس 2023 والتي نتج عنها تقديم حزمة من التشريعات الإصلاحية غير المسبوقة منذ صدور الدستور عام 1963 مثل قانون المحكمة الدستورية وقانون مفوضية الانتخابات وقانون غرفة التجارة وقانون منع احتكار الأراضي.

دعوات انقلابية خطيرة

لكن الأزمة الأخيرة، ورغم أنها طارئة وغير مسبوقة، الا انه يمكن علاجها بمرور الوقت وفي إطار الدستور، فالأمير له سلطة إقالة الحكومة وتعيين حكومة جديدة وفقا للمادة 56 من الدستور وله سلطة حل مجلس الأمة والدعوة الى انتخابات جديدة وفقا للمادة 107، وهذه الأزمة مثلها مثل الأزمات السابقة بين المجلس والحكومة في السابق هي نتاج طبيعي للديمقراطية وحرية الراي طالما في حدود الدستور.

إلا ان بعض أصحاب المصالح وطيور الظلام من أعداء الديمقراطية، كانوا يطلقون مع كل أزمة سياسية تشهدها البلاد بين المجلس والحكومة، دعوات توصف بانها ” انقلابية ” بتحريض السلطة أكثر من مرة لتعطيل الدستور وحل المجلس حلا غير دستوري، ويتفاوت سقف هذه الدعوات في كل مرة بحسب معطيات الأزمة ومشهدها وأطرافها، وقد نجحوا مرتين في تنفيذ مخططهم غير الدستوري في 1976 و1986.

ووصل مستوى التحريض في الأزمة الأخيرة الى مرحلة خطيرة، بالحديث ليس فقط عن تعطيل الدستور وحل المجلس نهائيا وتعليق الحياة النيابية عدة سنوات، بل تجاوز ذلك الى اطلاق دعوات ” انقلابية ” خطيرة وغير مسبوقة، تهدد الأمن الوطني للكويت من خلال قيام حسابات وهمية سارت خلفها بعض الحسابات المعروفة، بالتحريض على تدخل عسكري خارجي لحل الأزمة السياسية في الكويت !!.

ومن التطورات اللافتة أيضا أن الدعوة  الحالية الى الانقلاب على الدستور اتخذت شكلا علنيا عكس ما كان يحدث في السابق من شائعات تتردد في الدواوين هنا وهناك، فقد انطلقت الشرارة الأولى للأزمة الحالية من تصريح علني في ندوة تحدث فيها أستاذ علم الاجتماع، وعميد كلية العلوم الاجتماعية د.علي الطراح الذي دعا إلى “النظر في إيقاف العمل بالدستور لفترة زمنية وإعادة تقييم الأوضاع”، ونشرت تصريحاته الصحف المحلية في 25 ديسمبر 2023، وقال الطراح في الندوة التي أقامها مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية بجامعة الكويت بعنوان “خطاب سمو الأمير”: “حتى الدعوة لإجراء انتخابات جديدة خلال المهل الزمنية المقررة في الدستور لن تنفع، لأن الشارع الكويتي سيخرج العينات الموجودة نفسها حاليا وبالتالي علينا النظر في إيقاف الدستور لفترة زمنية وإعادة تقييم الأوضاع”.

ردود فعل مستنكرة

وإزاء ذلك، استنكرت الأوساط السياسية والشعبية، تلك الدعوات المغرضة التي تستهدف إشاعة الفوضى في الكويت والانقلاب على النظام الدستوري والسماح بالتدخل العسكري والسياسي الخارجي في شؤون البلاد الداخلية، ورفضت بعض التكتلات السياسية في عدة بيانات تلك الدعوات التحريضية كمخرج للوضع السياسي المتأزم، واعتبرت ان هذا الطرح لا يمكن اعتباره إلا انقلابا على الدستور الذي ارتضاه الجميع حكاما ومحكومين.

واستقبلت الأوساط النيابية تلك الدعوات بغضب شديد ووصفتها بانها دعوات انقلابية مشبوهة ومرفوضة تمثل “جريمة أمن دولة  وتقويض لنظام الحكم”، مطالبة بمعاقبة المحرضين حفاظا على استقرار البلاد، ومؤكدين أن مؤيدي هذه الدعوات التخريبية هم أناس منزعجين من مجلس الأمة ولا يريدون تشريعا أو رقابة لان لهم مصالح خاصة وبعضهم متزلفين  وان الفئات التي تطالب بتعطيل الدستور هي فئات «ضالة» .

ووصفت الأوساط السياسية والشعبية دعوة أحد الأكاديميين لتعليق الدستور بانها “انقلاب” على الشرعية الدستورية ومضامين اتفاق مؤتمر جدة الكويتي الشعبي اثناء الغزو العراقي الغاشم، والذي شدد على الالتزام المعلن والواضح بعودة العمل بالدستور وتطبيقه وان أي ردة كما حصل في عامي 1976 و1986 مرفوضة ونتائجها كارثية على الجميع، وأن على الجميع الالتزام بالدستور وعدم الالتفات لتلك الأبواق التي تريد هدم الدولة.

وأكد عدد من خبراء القانون الكويتيين أن تلك الدعوات التحريضية ضد الدستور هي دعوات انقلابية، وأشاروا الى أن المجلس التأسيسي الذي صاغ الدستور وأصدره في 1962 توقع ظهور من سيطالب بتعطيل الدستور في يوم من الأيام إذا ما أضر بمصالحهم وانهم قد يرفعون لافتات وهمية لتبرير الانقلاب على الدستور مثل الوضع الدولي أو المصالح العليا للدولة أو تسبب مجلس الأمة في أزمة للبلاد، لهذا صاغوا المادة 181 التي تمنع تعطيل مواد الدستور إلا في حالة إعلان الأحكام العرفية وحتى في هذه الحالة يبقى مجلس الأمة ولا يتم تعطيل جلساته أو المساس بحصانة أعضائه وهي حصانة دستورية لمجلس الأمة وقت تعطيل الدستور ووقت إعلان الأحكام العرفية.

‏‎أخيرا، فإن المشهد الكويتي عبر بمحطات تأزيمية عدة، شأنه شأن كل الأنظمة الديموقراطية، ولا يزال الدستور والتقاء إرادة الحاكم والمحكوم على على هذا الوثيقة الجامعة بمثابة الحصن والمصدة في وجه التيار المعادي للديموقراطية.

مشاركة عبر