ماركيز  ورفاقه يدينون الصهيونية.. ماذا عن أدبائنا؟

حين تطمع بنيلِ شيءٍ ما، ستحرص على نيل رضا مَن بيده ذلك الشيء. النفس المنفلتة لن تصل إلى الأشياء المغرية دون تقديم التنازلات، وأفدح الخسارات أن يتنازل الإنسان عن موقفه أو يخاتل فيه لأجل مصلحة، أو من أجل الفوز بمصلحةٍ ما بأجل غير مسمى.

تُصنع المعايير لتدجين المواقف. هكذا تبدو الصورة عند الحديث حول الجوائز الأدبية، وغيرها المتصلة بالمجالات التي تؤثر في الرأي العام ـ لِنَقُل جوائز الأنشطة المنبثقة عن الكتابة: أدب/ فكر/ صحافة/ سينما.. وغيرها من الفنون ذات الطابع الجماهيري. كلما كانت شهرة الجائزة أكبر، زادت احتمالية التدجين.

وهكذا، تحت تأثير البوكر، يحاول روائي ما كتابة عمل ايروتيكي، وطمعاً في الجائزة، يخفي إيمانه القروي ظناً بأن الفوز من نصيب المواهب التي يظهر على أعمالها شيء من إغراء الجنس ونزق الإلحاد.

الأعجب من ذلك، هو العيش في منطقة رمادية، وعدم تبني المواقف في قضايا مرتبطة بمصير إنساني، مثل القضية الفلسطينية، إذ يضيع صوت المبدع أو الموهوب، إما طمعاً بالجائزة أو خوفاً من سحبها، لكن هناك الكثير من الذين خرجوا عن معايير الجوائز وتشبثوا بمواقفهم، ليظهروا من المثقفين الشجعان مؤكدين أن عمل المبدع وشجاعة موقفه، هو الذي يوصله إلى قلب الجمهور لا الجائزة.

الفائزون بنوبل

«سامحوني إذا قلت أيضاً أنني أخجل من ارتباط اسمي بجائزة نوبل. أنا أعلن عن إعجابي غير المحدود ببطولة الشعب الفلسطيني الذي يقاوم الإبادة، بالرغم من إنكار القوى الأعظم أو المثقفين الجبناء أو وسائل الإعلام أو حتى بعض العرب لوجوده» هذا ما قاله الكاتب الكولومبي العظيم جابرييل جارثيا ماركيز، تعليقاً على الجرائم التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين أثناء الانتفاضة، قبل أكثر من عشرين سنة، عندما لم يكن الإعلام ينشر جرائم الكيان الصهيوني كما يفعل الآن مع انتشار مواقع الإعلام البديل.

اللافت في موقف ماركيز ـ إلى جوار إدانته للقوى الأعظم، والمثقفين الجبناء، ووسائل الإعلام، وبعض العرب ـ إعلان خجله من ارتباط اسمه بجائزة نوبل، وهي أرفع الجوائز العالمية وأكثرها شهرة على ظهر الأرض!

يُلَمح ماركيز إلى سياسة الجائزة العالمية ومعيارها القائم على مقايضة موقف الفائز بالقيمة المادية للجائزة والشهرة الناجمة عنها، غير مكترث بما ستتخذه الجائزة أو تعلق على موقفه الصارم مع الحق الفلسطيني.

كاتب آخر حاز على جائزة نوبل، يتخذ الموقف نفسه الذي اتخذه ماركيز، هو الكاتب البرتغالي ساراماجو، الذي قال في ذلك الوقت أن «رام الله التي رآها تحت الحصار تذكره بمعسكر أوشفيتس النازي، فاتهمه البعض بأنه ضحية الدعاية «الفلسطينية الرخيصة» لكن ساراماجو لم يهتز كغيره أمام تهمة معاداة السامية الجاهزة، بل جاء رده كاسحاً ساخراً حين قال: أفضل أن أكون ضحيةً للدعاية الفلسطينية الرخيصة، على أن أكون عميلاً للدعاية الإسرائيلية الغالية. «سأنقل موقف ماركيز وساراماجو في نهاية المقال».

لم يخش  ماركيز أو ساراماجو سحب الجائزة المرموقة، لأنهما أصلاً من أضافا قيمة للجائزة التي تغري الكثير، وليس العكس. ثم إن كثيرًا من العظماء يصلون ويصل إبداعهم إلى قلوب الجماهير، حين تظهر مواقفهم في القضايا الإنسانية تحديداً، وربما جاءت ردة فعل الأمانة العامة لمسابقة أو جائزة ما، من المبدع، بسحب الجائزة أو إبعاد مستحقها عن المنافسة، بما لم تأت به الجائزة نفسها، وهذا درس للجبناء الطامعين بالجوائز، أو الموهوبين الذين يلوذون إلى المنطقة الرمادية طمعاً للفوز بجوائز في المستقبل.

كاملة شمسي

في سبتمبر/ أيلول 2019، أعلنت لجنة تحكيم جائزة «نيلي زاكس» الألمانية، عن فوز الكاتبة البريطانية من أصل باكستاني، كاملة شمسي بالجائزة، لأن رواياتها «تبني جسوراً بين المجتمعات والثقافات» لكن اللجنة نفسها أعلنت سحب الجائزة من كاملة عندما عرفت أنها تدعم الحركات المؤيدة لمقاطعة إسرائيل، وعلقت اللجنة: «لم نكن نعلم أنها تشارك في الحملات الداعمة لمقاطعة إسرائيل».

ظهر معيار الجائزة الذي كان مستتراً خلف بناء الجسور بين الثقافات، وانقلبت لجنة التحكيم على نفسها، ولأن الكاتبة تؤيد مقاطعة إسرائيل، فهي تهدم ذلك الجسر بين المجتمعات، باعتبار المستوطنين القادمين من شتى أنحاء العالم مجتمعاً بثقافة متعددة الجنسيات وإن كانت ثقافة قتل؛ وهكذا سُحبت الجائزة من كاملة شمسي.
مجموعة من الكتاب والمفكرين العالميين أصدروا بياناً تضامنياً مع كاملة التي لم أكن أعرفها حتى ذلك الوقت، وأعتقد أنها لن تهمني عند الفوز ولن تثير أعمالها المترجمة فضولي، غير أن التقرير الذي قرأته في موقع bbc سنة 2019، عند سحب الجائزة، جعل اسمها وعملها يصل إليَّ وأنا في القرية المعزولة عن المدينة بسبب الحرب، كان ذلك حين قرأت تغريدة لدار التنوير في موقع تويتر سابقاً تقول: سحب جائزة نيلي زاكس الألمانية من كاملة شمسي، الروائية البريطانية من أصل باكستاني وصاحبة رواية «نار الدار» الصادرة عن التنوير، وذلك لموقفها الداعم لفلسطين ودعوتها لمقاطعة إسرائيل!  موقف مخزٍ من لجنة حكام جائزة كبيرة كـ «نيلي زاكس».

انسحاب عربي

لماذا نذهب بعيداً إلى أمريكا اللاتينية أو أوروبا، ونعود بالزمن إلى الوراء، إلى ما قبل عقود أو سنوات، إذا كان لدينا النموذج العربي الأمثل، الرافض للجائزة، والمتشبث بموقف الثابت مع فلسطين وأبناء غزة في الوقت الراهن؟.
في نوفمبر الفائت، أعلن الروائي شادي لويس بطرس، انسحابه من جائزة معهد العالم العربي في باريس، بعدما اختيرت الترجمة الفرنسية لروايته «على خط جرينتش» للقائمة القصيرة للجائزة، وقد نشر شادي مقتطفاً من رسالته لدار النشر الفرنسية «أكت يود»، قال فيها:

«بعد تفكير طويل في ظل الأحداث المأساوية الراهنة التي تشهدها غزة، توصلت إلى قرار الانسحاب من جائزة معهد العالم العربي. لقد كان شرفا لي الوصول إلى الجمهور الناطق بالفرنسية من خلال ترجمتكم لروايتي «على خط جرينتش». كما أن التغطية الصحفية الفرنسية الإيجابية للرواية شرفتني. ومع ذلك، أجد صعوبة في التعامل في هذه الأوقات مع أي مؤسسة فرنسية لها انتماء أو مكانة رسمية. إن انسحابي ليس حتى احتجاجاً على الموقف الفرنسي الرسمي بشأن غزة، إذ أنني أجد أن المأساة ساحقة إلى حد أن الاحتجاج لا معنى له. هذا القرار لي فقط حتى يكون ضميري مرتاحاً».


الشجعان يتشبثون بمواقفهم، يكفي أن يعيشوا بضمائر مرتاحة، أما الجبناء فتتمرغ ضمائرهم في وحل التأنيب وإن أسكتهم رغد الجوائز.


من خلال هذا الموقف، عرفت متأخراً، هذا الكاتب الذي يستحق أن يكون قدوة للمثقفين، والمقتفين آثار الكتابة الإبداعية. من يثق بعمله الإبداعي، ويعرف آليات الكتابة التي استخدمها، لا يحتاج إلى تلوين مواقفه للوصول إلى الجمهور، أو الفوز بجائزة. التشبث بالموقف الإنساني جزء من الإيمان بالموهبة، التقيد بمعايير حقيقية أو مخاوف وهمية يتنافى مع حرية الإبداع.


عقب شهر تقريباً من إعلان الانسحاب سيكتب شادي بطرس في صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك متهكماً: «صحفية اسمها زينت الغزوي، فرنسية من أصل مغربي، كانت شغالة سابقاً في “شارلي إيبدو” وفازت بجائزة “سيمون فيل” الفرنسية سنة 2019، وبعدين اليومين دول أدلت بتصريح شبهت فيه ما يحدث في غزة بالمحرقة، فتُقدِّم شكوى فيها وتم سحب الجائزة منها. ففيه ناس كانت بتسألني أنت ليه انسحبت من جايزة معهد العالم العربي بباريس؟ أنت يعني غاوي انسحابات، فالرد عملياً أهو، يعني الواحد ينسحب ويقولهم من الأول أنتوا ماتسووش، ولا يستني هما اللي يسحبوها منه ويقولوا أنت ما تستاهلش».


لا أبالغ إن قلت أن أكثر كاتب عربي يعيش ضميره مع غزة وأحداثها، هو شادي لويس بطرس، تظهر غزة في معظم مقالاته الأخيرة إذا لم يكن كلها، أحد هذه المقالات يتحدث شادي عن جائزة «حنة أرندت للفكر السياسي» والتي كان من المقرر منحها للكاتبة الروسية الأمريكية، ماشا غيسين، لكن مؤسسة هاينريش بول، سحبت دعمها لمنح الجائزة، ثم لحقتها حكومة بريمن الألمانية «وعلقت استضافة مراسيم تسليم الجائزة بمبنى بلدية بريمن، وذلك على خلفية كتابة غيسين، مقالة في مجلة “نيويوركر” في التاسع من الشهر الجاري “ديسمبر”، بعنوان: «في ظل الهولوكوست» شبهت فيه غزة بغيتو وارسو، ودانت الحرب الإسرائيلية على القطاع».

ماركيز وساراماجو


في كتابه «من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية» ـ دراسة نُشرت أجزاء منها في صحيفة الاتحاد الإماراتية في مطلع الألفية الجديدة ـ يرى المفكر الراحل عبدالوهاب المسيري إن «من أهم ثمرات الانتفاضة التي تتجاوز التجمع الصهيوني؛ اختراقها للتعتيم الإعلامي الذي فرض على الشعب الفلسطيني وعلى جهاده ومقاومته، فوصلت الرسالة لكل شعوب العالم» وينقل لنا المسيري عدداً من المواقف لأدباء ومثقفين عالميين، من بينهم ماركيز وساراماغو، أنقل هذه الأسطر تباعاً من الكتاب المذكور:


«ومن أبرز الغاضبين  الكاتب الكولومبي الحائز على جائزة نوبل في الأدب، جابرييل جارثيا ماركيز، الذي كتب يقول:


استندت نظرية المجال الحيوي الصهيونية إلى أن اليهود شعب بلا أرض، وأن فلسطين أرض بلا شعب. هكذا قامت الدولة الإسرائيلية غير المشروعة في 1948، فلما تبين لهم أن هناك شعباً وأن في فلسطين شعب يسكن في أرضه، كان من الضروري حتى لا تكون النظرية مخطئة إبادة الشعب الفلسطيني، وهو ما يتم بصورة منهجية منذ أكثر من خمسين عاماً.


هناك بلا شك أصوات كثيرة على امتداد العالم، تريد أن تعرب عن احتجاجها ضد هذه المجازر المستمرة حتى الآن، لولا الخوف من اتهامها بمعاداة السامية أو إعاقة الوفاق الدولي، أنا لا أعرف هل هؤلاء يدركون أنهم هكذا يبيعون أرواحهم في مواجهة ابتزاز رخيص، لا يجب التصدي له سوى بالاحتقار، لا أحد عانى في الحقيقة كالشعب الفلسطيني، فإلى متى نظل بلا ألسنة؟

أنا أعلن عن اشمئزازي من المجازر التي ترتكبها يومياً المدرسة الصهيونية الحديثة، ولا يهمني رأي محترفي الشيوعية أو محترفي معاداة الشيوعية. أنا أطالب بترشيح أرييل شارون لجائزة نوبل في القتل. سامحوني إذا قلت أيضاً أنني أخجل من ارتباط اسمي بجائزة نوبل. أنا أعلن عن إعجابي غير المحدود ببطولة الشعب الفلسطيني الذي يقاوم الإبادة، بالرغم من إنكار القوى الأعظم أو المثقفين الجبناء أو وسائل الإعلام أو حتى بعض العرب لوجوده».

أما الكاتب البرتغالي ساراماجو ـ وهو أيضاً حائز على جائزة نوبل ـ فقد صرح أن رام الله التي رآها تحت الحصار تذكره بمعسكر أوشفيتس النازي، فاتهمه البعض بأنه ضحية الدعاية «الفلسطينية الرخيصة» لكن ساراماجو لم يهتز كغيره أمام تهمة معاداة السامية الجاهزة، بل جاء رده كاسحاً ساخراً حين قال: «أفضل أن أكون ضحيةً للدعاية الفلسطينية الرخيصة، على أن أكون عميلاً للدعاية الإسرائيلية الغالية!» وفصل رأيه فيما رآه قائلاً:

«لم أكن أعرف أنه من الطبيعي أن يبحث طفل فلسطيني دمروا بيته عن كتبه ولعبه وسط الأنقاض، لم أكن أعرف أنه من الطبيعي تماماً أن تزين الرصاصات الإسرائيلية جدران المنازل الفلسطينية، ولا كنت أعرف أنه يلزم لحماية أقلية من الناس أن تُصادر المزارع وأن تُدمر المحاصيل، ولا أن توفير الأمن لهذه الأقلية يقتضي احتجاز المئات عند نقاط التفتيش وحواجز الطرق قبل السماح لهم بالعودة إلى منازلهم منهكين، هذا إن لم يُقتلوا.. فهل هذه هي الحضارة؟ أيمكن أن نسمي هذه الأشياء ديمقراطية؟».

مشاركة عبر